إشارةٌ حمراء| سجى سامي حمدان

 


إشارةٌ حمراء| القصة الفائزة بجائزة نجاتي صدقي

خرجت الشمسُ غاضبة رغم أن الشتاء كان قصيرًا، ورياحُ الخماسين جاءت تتم على الأمور نهاياتها فتترك في النفس انطباعًا أنّ العام في نهايته كأنها تستعجل الصيف قافزةً عن حميمية الربيع، لا أحبّ هذا الجو.. يعود بي إلى نهايات الفصول الدراسية والتجهيز للاختبارات، تَتِمَّاتُ المراحل..

أشعةٌ ملتهبة تخترق مسامات الجسد، وشرطيٌّ في منتصف الثلاثينيات من العمر يشيرُ إلى طفلةٍ أن تبتعد عن مجرى زحف السيارات، كنت راقدةً أمام المقود في انتظار تبدل الإشارةِ الحمراء وأنا أنقم على الشمس التي تقدح أشعتها في يديّ فتخلفُ فيهما خطوطًا سمراء أو بنية..

نظرت إلى الساعة التي باتت عقاربها تقترب لخط سير سلحفاةٍ قررت فجأة أن تعاود الالتفاف بالقوقعة بغيةِ إكمال قيلولتها..

 إنه الشوق الذي يطهو القلوب على نيران الترقب، الانتظار الذي يقذف في النفس هاجسًا: كأن عقرب الساعة يودّ لو يرجع للوراء.. وينقص كلَّ دقيقةٍ ساعة؟

ظننتُني حينها أذكى من الوقت الذي يُساومني على عودة الحياة بمجيء عينيك.. فقررت قطعه قبل أن يقطع قلبي وينتهي به إربًا لا تطيقُ تجرع غيابك..

استقليتُ سيارتي رغم أن الجو لا يطاق.. وانطلقت بغية تجهيز أشياء تحبّها.. هذا طبعًا بعدما تركتُ البيت ضاجًّا برائحة البخور الذي " يمنح المكان سعادةً خجولة" -على حدِّ زعمك-، والشمعات المعطرة تصطف وراء بعضها على مائدة الطعام وقد نويت إشعالها –للمرة الأولى-دون خشيةٍ عليها من التلف؛ لكن اليوم ستُباحُ كل المحظورات.. كم مرةٍ ستعود من السفر؟

اليوم أدرك أنه لا يتوافرُ رقمٌ لهذه العملية من الأصل..

 في آخر اتصالٍ لك قبل قرابة الساعة أبلغتني أنك ستصل الساعة الخامسة تمامًا، ولأني استشفيتُ المكر من صوتِك، ولأني أحفظك عن ظهر روحٍ وعمرٍ وعشق.. أدري أنك ستأتي قبل الموعد المحدد بغية مفاجأتي، ولأني أذكى منك ومن الوقت الذي يفتك بقلبي ببطئه ورُوِيتِه.. سأفاجئك أيضًا..

توجهت إلى أول بقالةٍ بغية شراء الشكولاتة السادة التي لا أدري كيف تحتمل مرارتها، لكن ما عسانا فاعلين؟ اليوم يومك، لا ضير ببعض التنازلات التي طالت أيضًا بائع الورود -كما لا تحبّ أن تسميه- ف "الوردُ وجهٌ من وجوه الحبّ، والحبُّ لا يُباع!" كان صوتك يتردد في أذني حين دخولي من الباب، ولأنك لم تأتني باسمٍ بديل سأستخدم البائع مؤقتًا.. أما الجديرُ بالذكر هو أني أحضرت الياسمين الذي تهيمُ به وتجاهلتُ الجوري الذي يستفزك رغم أني أُفضِّله، تركتُ البائع.. أقصد "موزع الحبّ" خلفي بعدما أطلق تحياته وتوصياته بتوصيل سلامه إليك..

أجلست الباقة والشوكولاتة في المقعد بجانبي، كلنا اليوم نتجهز للقائك بعد السفر الطويل..

لا زال الوقتُ متوقفًا، ولأني عقدت النية ألا أسمح له بالانتصار.. أدرت محرك السيارة متوجهةً إلى الكوافير، لا تقلق.. لن أقص شعري؛ قد عقدنا معاهدة سلامٍ على ذلك.. حين هززتُ رأسي على مضضٍ وأنت تساومني:" هل تقصي هذا الشعر الحالك؟ فتستأصلي الليل من ضجيج الحياة.. أيرضيكِ ألا أنام، ولا تغفو طيور اللهفة حينها؟" كنت شاعرًا بما يكفي لتجعلني أوافقُك اللامنطقية في كلامك المعسول .. حسنًا، سأكتفي بتصفيفه فقط.

طالت الإشارة الحمراء.. كنت أفكر جديًا تلك اللحظة أن ماذا لو لبست القفزات أثناء قيادتي للسيارة خلال الصيف؟ وإني ما أحب أن تتحول يدي الناعمتين إلى مرتع تلوُّنات وتصبُّغات، كنت أدخل باحثةً في تفاصيل هذه القضية قبل أن يرن عليّ رقمٌ طويلٌ أطلقت ضحكة عندما رأيته أن يا إلهي هل أمسيتُ شخصيةً مهمةً حتى تتصل بي أرقامٌ خاصة؟!

صوتٌ خشنٌ يغتال براءة المشهد، موجةٌ كهربائية تصعق الروح وتتلاشى إلى كونها قشعريرة تسري بالجسد، تختفي تجاعيد الضحكات من حول عيني، وينكمشُ الجسد كأنه في أيام كانون الأولى..

تنتهي المكالمة، العيون شاخصة، الهاتف ملتصقٌ في أذني، والدماغ لا يعطي إشارة لردّ فعل.. تنطفئُ الشمس وتركض الغيوم إلى مستقرٍّ لها فتوَدُّ لو تساعدني فتبكي في عيوني..

بأيّ حق؟ ما هي التهمة؟

تذكرت أنهم لا يحتاجون سببًّا، وأنَّ تلفيق القضايا أسهل من شرب الماء لديهم.. أقال أن تحقيقك طال؟ ثم جاء أمرُ اعتقالك!

متى محكمتك الأولى؟ يقول البعض أن حينها فقط يُسمح أن أسقط فوق صدرك وأبكي.. هل قالوا اللقاء عشر دقائق فقط بحراسة الجنود؟ وحينها كم سيكون عدد المؤبدات.. اثنين، ثلاثة، سبعة وثلاثين؟! ما الفرق؟

ماذا إن كان التحقيقُ قاسيَّا، وألقوا بسياطهم على الجسد المتعب.. أدري أنّ جُموحَك أقوى من محاولاتهم، لكن ماذا إن تمادوا؟ وعزلوك عن الحياةِ والبشر؟ هل تطيقُ التنفس وقد حاصروا الروح بين مترين مكعب؟!

خطر ببالي فجأة أني لا أعرف شاعرك المفضل! هل يمكن أن اسألك عن هذا عبر السماعة السلكية التي توصل لك صوتي من بين لوحي زجاج ومترين؟ ماذا إن استغربتَ حينها من السؤال وجلبته، واستغرق ذلك وقتًا أطول، فجاء الجندي ينتزع الصوت منا فلا نَعُد نسمعُ أنفاسنا؟

ماذا إن رفضوا زيارتي لك من الأساس؟ أو سمحوا بها فلما وطأتُ أعتابك قالوا: "فش زيارة" بلهجتهم المتكسرة التي تشهد على زيفهم وترفض كونهم دخلاء على هذه الأرض وعروبتها..

سنجد وسيلة للعناق لا محالة، لم لا أبعث لك بالرسائل.. أم أنهم حاصروا الكلمات -أيضًا-؟!

فعلًا..  الحبّ لا يُباع، لكنه لا يُهدى -أيضًا- كما تقول، إنه سلطةٌ دكتاتوريةٌ لا شأن للاختيار والإهداء فيها.. وإذ يحتل السجان جسدك اليوم فإنك احتللت قلبي، وإن احتلاله زائلٌ، وإن احتلالك باقٍ يتجذر كل يومٍ في صدري..

تزاحمت المركبات وانفضت من حولي مطلقةَ وابل زماميرها على سيارتي المذهولة في منتصف الطريق، لم أفق إلا على الشرطي الذي يصرخ بي وقد ألقى بورقة المخالفة في وجهي..

دست على البنزين وأنا أضع المخالفة بجانب أزهار الياسمين المنتحبة..

قصدتُ الكوافير، قصصتُ شعري.

وعندما أدرتُ مفتاح المنزل دورتين تداركتُ:

-كيف أنام وحدي.. وأنا أخاف العتمة؟

 

 

تعليقات

  1. رائعه كروعتك ابنة اخي الغاليه
    دمت ودام قلمك

    ردحذف
  2. سجى حمدان ابنة فلسطين
    أنت حقا رااائعة
    جدا
    وجدا

    ردحذف
  3. مبدعة ما شاء الله بتجنن😍

    ردحذف
  4. حزينة و تنتمي لواقعنا الصعب، ابدعت

    ردحذف
  5. مبدعة أنتِ،
    جمال سرد الأحداث و وصف المشاعر❤️❤️و تناغمها مع الواقع المُر

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الطقس.. إلى حدٍّ ما! | سجى حمدان

في حبِّ رمضان.. سجى حمدان