في حبِّ رمضان.. سجى حمدان

 


سجى حمدان

 

سُئلتُ مرةً على حين مُداهمة: هل تتحقق أمنياتك؟

ورغم أني علمتُ حديثًا الفرق بين التمني والرجاء، إلا أني أعذر سائل السؤال كما عذرتُ جهلي طيلة السنوات التي دعيت أحلامي فيها بالأمنيات، لكن الله أسمى من أن يؤاخذنا بألفاظنا وقد اطّلع على ما في القلوب، كم مرة لم نجهز كلمات دعائنا لكنها كانت من القلب تمامًا .. فتحققت؟!

كثيرًا عاملتُ الله باليقين، باليقين الكامل الذي لا تعتريه ذرةُ شك.. دومًا ما شعرتُ بوجود الله معي في كل خطواتي، في كل فرحٍ ومصيبة، في كل نجاحٍ وضيق، ظني أن الله معي نجَّاني في كل مرةٍ تعسر فيها الوصول، وبهت الطريق.

كم أن لطف الله عظيم حين يستجيب لعبده اللحوح رغم ظن العبد أنْ "مستحيل" لكنني أخاطب ربّ المُحال الذي يطوعه بِ "كن" فيكونُ ويكونُ ويكون!

يومًا ما كان لديّ في الجامعة امتحانٌ نهائي لمتطلب عملي، ولمن لا يعلم عن "طب الأسنان"، فامتحاناتنا العملية تكون على مرضى في عيادات الكلية، نقوم بالتشخيص ثم بكافة خطوات العلاج، وعلى كل جزء منها "تقييم"، ولست بحاجةٍ للقول أن إذا تغيب المريض فستأخذ "الصفر المكعب" الذي نسمع عنه مذ كُنّا بالصف الأول وحتى اللحظة لا نفهم ماهيته الكاملة..

حدث يومها أن تأخر مريضي وذهب جزءٌ من وقت الامتحان، كان ستارُ الخيبة يأخذ بالنزول على المشهد تدريجيًّا حتى جاء "المريضُ" أخيرًا فتنفستُ الصعداء وأدخلته إلى العيادة لأشرع بتجهيزه، جاءت الطبيبة المشرفة لتُعاينه، وكانت المصيبة حين قالت لي بكل برود: "الحالة غير مقبولة، ابحثي عن غيرها"!

كيف أبحثُ عن غيرها ومتبقٍ ساعةٍ واحدة لانتهاء وقت الاختبار؟! من أين لي بعصا فروزن التي تحقق الأمنيات؟! هل أنزل للبحث في أروقة الجامعة وأشعل "ضوء" جوالي المتواضع مُلتمسةً من الطلبة أن يفتحوا أفواههم واحدًا تلو الآخر كي أتخير منهم من تنطبق عليه شروطُ "الحالة المقبولة"، التي أكاد أجزم أني تخرجتُ قبل أن أعرف ضوابطها وقوانينها التي تتغير بمعدل مئة مرة في الثانية بمقياس ريختر للزلازل، هذا وبكل تأكيد إن استجاب المريض ووافق أن ينقذ هذه الطالبة التي يفصلها عن الرسوب ساعةً أو أقل!

دارت الدنيا برأسي دورةً كاملة، المتكلمون من حولي صوتهم يتقطع فور دخوله إلى أذني، شاخصةٌ في نفس المكان قبل أن يأتي زميلٌ لي –أعتقد أن فيه شيئٌ لله – كما يُقالُ عادةً، قال لي: لدي الحالة المطلوبة.. بالفعل فحصته وكان المريض الذي قدّمتٌ عليه امتحاني النهائي.. ألا يُعدُّ هذا لطفًا من الله؟ وانطباقًا لقوله:"إنّ بعد العسرِ يُسرًا"؛ وهذا تطبيق يومي أو لحظيٌّ للعسر الذي يحيطُ به يُسران، فكيف بأحداثنا الأكبر؟ ومشاكلنا الأعظم؟

دخلتُ هنا للحديث عن رمضان وخرجتُ واصفةً لمأساةِ طالب جامعيّ، لكن العذر موجود.. فالمواضيعُ متشابكة وطرف الخيط معقودٌ بإخوته، وحتى يوم الناس هذا فإني لم أسعَ لفك عقدةٍ في أي خيطٍ أراه، وهذا إسقاطٌ –أيضًا- على الحياة التي أعشق تداخلها ولا أسعى لعيش الحدث بمعزلٍ عن أخيه، فالعائلة، والدراسة، والأصدقاء، والمشاكل، والقراءة، من نحبّ، والذين يكيدون لنا أيضًا.. الجميعُ خليطٌ في إبريق الحياة.. فهنيئًا لمن جانسَ خليطه وانسجم به واستلذّ بمذاقه.

علّقنا البارحة أضواءً ملونة بمناسبة حلول رمضان الذي يركض سريعًا ويصل إلى نهايته في هذه الأيام، الشهر الذي نخرج منه في كلِّ مرةٍ بتغيير جديد، رغم كوني حزينة على انقضاء سنتين دون صلاةِ التراويح في المسجد –للنساء- بسبب ظروف فيروس كورونا المستجد؛ ذلك أني اعتدت أن أدخل في كل يومٍ على مسجدٍ جديد وأسمع صوت شيخٍ مختلف، وكان هذا ضمن فعاليات رمضان بالنسبة لي، ربما سيقول أحدهم:" صلاةُ المرأة في بيتها خير"، لكن فيّ عشقٌ للهرولةِ في طريقنا إلى المسجد كي نصل قبل "الإقامة" بعدما انتهينا للتو من أكوام "الجلي" المتراكمة في المجلى، ولا أريد هنا أن نتطرق إلى "الاتجاه المعاكس" حيث أنا وأمي وقضية إحضار "جلاية"؛ فلا زالت أمي مقتنعة أنها لن توفر من الوقت شيئًا وأن الوضع "هوا هوا"، تُرى من ينتصر في النهاية؟ ههه الإجابة واضحة؛ فمهما كانت القضية أمي دومًا تربح!

نعودُ لصلاة التراويح.. أنا متورطة في حب "تراصّنا" بالصفوف، وصوت الشيخ المائل للنشيج، وإني أعشق إطالتنا للركوع والسجود.. ولدعاءٍ نُسرع به شفتينا بعد انتهاء دعاء الإمام في ركعة الوتر الأخيرة، فنكمل عنه ما لم يعلمه من مُرادنا، نصلي على النبي لنحلق السجود، ويا لفرحتي حين التقي بأصدقاء قدماء يجمعنا بهم القدر في ازدحامِ ما قبل الخروج من المسجد، رفاق كدنا من طول سفر الحياة أن ننساهم، فنسأل عن أخبارهم، ونعودُ لنرى الدنيا بعينهم مسترجعين المواقف والضحكات، والمآسي التي جمعتنا، وفي خضم زوبعة الدهشة والذكريات حتمًا سننسى تبادل أرقام هواتفنا الجديدة، ليظلَّ اللقاء معلقًا على صلاةٍ  قادمة في مسجدٍ يحط على هذه المعمورة.

وإنّ بي فرحةٌ خاصّةٌ للقاء أولئك للأصدقاء الذين تعرفنا عليهم خلال جلسة وعظٍ في بيت الله، أو جلسوا جانبنا يومًا في دورةِ لتعليم أحكام القرآن، وأُخرى لتفسيره.. رفاقٌ كنا نركضُ وإياهم في زحمة الحياة حتى نصل هنا فنلقي حملنا على بابه وندخل بأرواحٍ ترفرف، وإني أُشهد الله أني أحببتُ في بيته خلقٌ كُثُر.. جمعني بهم سعيٌّ للآخرة وعلمٌ ينفعُ ولا يضر.

نعودُ والشوارعُ حيَّةٌ، والأضواء الملونة تود لو تنزل من عليائها فتركض وراء الأطفال تداعبهم ويأنسون بها..

 نصل إلى البيت لنكتشف أننا غير متعبين، ففي رمضان طاقةٌ لا تُفسر.. نجتمعُ وقد أمسك كلٌّ منا بطبق تسليته وتجمعنا مجددًّا لوجبة أخرى.. ففينا يقينٌ أن معدتنا لم تأخذ قسطها الكافي خلال الجولة الأولى..

 
عن نفسي.. لا يهدأ بالي حتى أقضي على آخر قطرة من طنجرة الشوربة، وعصير الكركديه.. ولا أدري ما المتعة التي تعتريني مع كل طبق..

وعن التفافنا حول برنامجٍ تلفزيوني –لا يهم اسمه أو نوعه-، المهم أنه يضمن تراصنا في نفس المجلس مستأنسين بتعليقاتنا وآرائنا حول الموضوع التي دومًا ما يغلب عليه طابع السخرية، وننفجر ضاحكين إثر تعليقٍ يلقي به أبي أو أمي أو أحد أخوتي بعد انقطاع عهدنا بالاجتماع...

لا ندري كيف يمضي رمضان على عجالة، ولكلِّ يومٍ فرحةٌ خاصة ودفء القلوب لا معلل له سوى ارتياحه بالطاعة والعبادة.

سئلتُ ذاتَ عيادةٍ وأنا أجاهد فيها حيث أعقدُ صولاتٌ وجولاتٌ داخل فم مريضٍ ما.. سُئلتُ عن أمنياتي؛ ورغم جلبة السؤال وفجأته إلا أن جوابي كان ثابتًا: لم أطلب من الله شيئًا إلا ومنحني أضعافًا.. لا يمر عليّ رمضان إلا وقد استجاب الله لدعائي قبل قدوم رمضان التالي.. وإني في حضرة الله لا أتمنى، وإنما أرجو..  وإن أعظم الرجاء الذي يكون بباب القوي الجبار.. وإن ألطف المنح وأجملها تلك التي يهبها لك الكريم القادر..



 

 

 

تعليقات

  1. الله الله الله

    ردحذف
  2. جهزي مقال للعيد والصوصات

    ردحذف
  3. رائع سجى

    ردحذف
  4. جميييل سجى المبدعة

    ردحذف
  5. ادعوا الله و انتم موقنون بالإجابة

    ردحذف
  6. لوداع رمضان شجون في القلب كل عام
    جميلة كلماتك يا سجى

    ردحذف
  7. كل عام وانتي بالف خير سجى الجميلة

    ردحذف
  8. ماشاء الله ..تمعنت بهذه الكلمات كثيراً دمتِ ودام قلمك سجى

    ردحذف
  9. روعة ياسجى كل مقال اجمل من السابق

    ردحذف
  10. في رمضان طاقة لا تفسر وفي روحك جمال مختلف ولعل عطاء قلمك هو ما يزيدك بهاء

    ردحذف
  11. الله عليكِ يا سجى😍😍😍😍

    ردحذف
  12. جميل جدا جدا 🥺🥺

    ردحذف
  13. وإني في حضرة الله لا أتمنى، وإنما أرجو..❤️❤️
    رائعة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الطقس.. إلى حدٍّ ما! | سجى حمدان

إشارةٌ حمراء| سجى سامي حمدان