موتٌ أخير..
لا شيء يدفعني للكتابة.. على عكس الناس كنت أكتب لأني حالمة، ولأن الحياة تكون في الكتاباتِ جميلة، ولأن عالم الكتابة أبيض نلونه بحسب ألوان الحبر في قلوبنا..
على عادتي.. تركض أصابعي قافزة بين أزرار الكيبورد وملامح وجهي لا تكف عن التبدل بين فرح أشعر به، أو حزنٌ أبكيه، أو شوق يفيض بقلبي فأسكبه على الورق وتختلط هناك المشاعر.. اليوم الأصابع مُسجاةٌ فوق المحرك، والأعين شاخصة تنظر إلى البياض الكثير أمامها، أما العقل يُساومني لِم لا نقلب لون الصفحة إلى الأسود؟ فهذا البياض المفرط نكايةً بالحزن الذي جئتِ تُوثقيه وما طقتِ به..
اليوم جف مداد القلب.. وانقلبت الصفحة ستارًا أسود، لا شيء يلونه مهما حاولنا الكتابة..
أعتقد أننا نظلم جراحنا حين نستعجل لمسها بالقلم قبل أن تبرأ، في كل مرة أجلس أمام هذه الأوراق أتسائل.. أن ماذا لو كانت الدموع مدادًا؟ كم من الأشجان سنُخلد؟
أما بعد.. فإن الشوارع لا زالت تبكي رغم حركة الحياة فيها، والبيوت اليوم وفيةٌ تنتحب على أطلال أصحابها، أما الجدير بالذكر فالقطط في وطني تمر ب”حالة نفسية” .. أما “نحن” لا مشكلة لدينا فهنا نمر بمحاذاة الحرب.. قتلى دون أن نُسجل ضمن الوفيات!
انتهت جولة العدوان الأخيرة ولا زلنا على قيد الحياة، أعتقد أن داخلنا جميعًا كانت فرحةٌ صغيرة: “أن كيف نجينا من هذا الجنون والقصف العشوائي؟!”.
لكني عندما خرجتُ لم أعرف “غزة”، تغيرت عليّ ملامح المدينة، لم أتعرف على الشوارع التي من المفترض أني أحفظها، ترى أين سكان هذه البيوت؟ وأين الحياة التي كانت فيها قبل أن يقبض عليها الصاروخ متلبسة بجريمة الحياة؟
لا شيء يدعوا لتلوين الركام فوق أرواحنا، بأي قلمٍ أرسم دمعةَ طفلٍ جريحٍ ينظر للكاميرا وجثة أمه بجانبه؟
أي حبرٍ هذا الذي يستطيع تلوين الرماد المتراكم على الأجساد المخرجةِ من المباني والأنقاض؟ كيف أواسي نفسي والقارئ؟ وكيف أضغط بالقلم على خاصرته النازفة؟
احترت كيف أعرضُ المقارنة، ومن أين أبدأ، من الأحدث أم الأبشع؟ وهنا لن أكلف نفسي باختراع أسلوب منمق، ويحدثُ أني للمرة الأولى لن أعير اهتمامًا سوى للكارثة .. أقصدُ: الفكرة!
أما الأحدث والأبشع، فقد نزل صارخٌ خصص لتفجير الجبال بمنتصف شارع “المكتبات” أو “الجامعات” الذي اعتدنا عليه مزدحمًا بالسائقين والطلاب في تمام الثامنة صباحًا ولكلٍّ ذكرياته ومشاغباته، عن نفسي.. دومًا ما دب الشجار بيني وأصدقائي كي لا نمرّ بمحاذاة المكتبات، ففي هذا الشارع تُعرض الكتب على الرفوف الزجاجية كما أسواقُ “المجوهراتُ”، هم يزعمون أني “سألتصق بزجاج المكتبة منقضةً على عناوين الكتب”، وكما تقول أمي أيضًا أني أتركها واذهب باتجاه “الجاذبية العشقيَّة”، سعيدةٌ لأني في المرة الأخيرة كنتُ المنتصرة، وبعد دخولي إلى مكتبة “اقرأ” التي تظهر ككومة حجارة في الصورة الأخيرة بحثت كثيرًا بين الكتب، قررتُ أن ابتاع “يافا.. حكاية غياب ومطر” للمرةِ الثانية، وحين خرجتُ من المكتبة قدمتها كهدية لصديقتي “سارّة” التي تفاجأت من جنوني وألهمنا العقل حينها بتخليد اللحظة بصورة!
في الصورة الثانية مدرستي الثانوية، في هذه الساحة حيث الهُتاف والصراخٌ وبداية “التمرد على القوانين والحياة”، هناك كانت نادين وتيماء وضحى وحنين ودعاء، قصصنا التافهة وشجاراتنا الكثيرة ومسلسلاتنا التركية.. على المدرج الكبير جلسنا وكان صوت قهقهتنا يصل إلى آخر الشارع الالتفافي في حيِّنا، كثيرًا ما تحدثنا في السياسة وكان “الاتجاه المعاكس” حدثًا أساسيًا في يومنا .. هنا شاركت لأول مرة بمسابقة “كرة السلة”، وهنا أدرنا الزجاجة وسط الحلقات الوسيعة كي نلعب “الصراحة”، ولا أحد من اللاعبين يقول شيئًا صريحًا على الاغلب..
في الصورة الثالثة صحيفة فلسطين، المكان الذي ذهبته للمرة الأولى مع صديقتي “سماح”، وفي يدي قصةٌ صحفية لا أعرف من يمكن أن ينقحها او يعلمني أخطائي منها.. هنا قيل لي:” الصحيفة فرصةٌ عظيمةٌ لقلمك”، وضحكت سماح لي وهي تسمع الأستاذ يقول” ملكتِ قلمًا ندرَ وجوده بين الصحفيين”.. كانت بداية سعادتي بالكتابة، هنا تعلمتُ كيف أربكُ القاريء وأتعبه، كيف أشدُّهُ إليّ فلا أعطيه المعلومة جاهزة، تعلمتُ كم أن سيف الكلمة حادّ، ودقيق.. وألا نوزع التهم كما نشاء؛ ذلك أنّ المُتهم مهما كان مخطئًا.. له حقٌّ بالردّ عما نُسب إليه، فكلُّ حرف محكوم بالقانون!
في هذه الصحيفة كتبت عن شخصياتٍ أحببت فيها الطموح والقوة، وثقت قصص نجاحهم وقلقهم، كتبت فيها عن “الشهداء”، عن سعادتهم المؤجلة، وذكرياتهم، فلم أمل من الركض وراء تفاصيلهم وملامح حياتهم.
وإني في أول مرة ذهبتُ إلى الصحيفة حملت بين يدي قصة “عبد الرحمن الزاملي” الشهيد خلال عدوان 2014، لم أعلم بأن القصة لم نتنهِ عند آخر جملةٍ كتبتها، وأن المحتل يتربص ببقية لها..
اليوم رأيتُ صورًا للمسعف يجمعُ أشلاءً بين قطعة قماش ويكتب فوقها “حور الزاملي”، كان المشهد مرعبًا.. لا يزال..
حور ابنة أخ الشهيد عبد الرحمن ترحل اليوم إلى عمها، وأمها التي مضت بطفل يبلغ الخمس شهور في أحشائها!
فالشهادة اليوم وراثة وميزة، يستحوذ عليها الأحق ومن لديه سابق خبرة وتجربة، وإن كل قريب شهيد متهمٌّ بالحبّ وأولى بالشهادة!
برج الجوهرة.. هنا تلقيتُ تدريبات وعملت كمذيعة راديو صغيرة تبلغ 15 عامًا فقط، أعددت حلقات برنامج “عالم البنات” الذي قدمته وصديقتي “ميران” عبر إذاعة الصحفي الصغير.. أتذكر أني كنت أتفنن في قول ترددها وأنغمه “106.3 أف أمممم” ههه نعم لا أدري لم أبالغ في نطق الميم..
ذلك الوقت أدركتُ كم أحبّ “الصحافة”، وكم أعشقُ كوني مذيعة أو “متحدثة”، ورغم أني أوصي صديقاتي خلال يومنا الدراسي أن يفتحن الراديو حين تدق الرابعة مساءً، ألا أني كنت أتحمسُ حين اتصالهن كأنهن معجبات في الحقيقة!
احتفلتُ بعيد ميلادي الخامس عشر “على الهواء” يومها برفقة “نادين وأضواء” التي لا زالت أمي تستغرب من اسمها حتى هذه اللحظة قائلة “مين بسمي أضواء؟!”
الصورة الرابعة.. برج الشروق، هنا في فضائية الأقصى حيث الظهور الإعلامي الأول، كنتُ سعيدة حين اصطفت السيارة الخاصة أمام باب منزلي لتقلني إلى القناة، وكأني شخصية مهمة، راسلتُ صديقاتي “شمس وسجى” بهذا الحدث العظيم وقتها!
تحدثنا يومها عن قصتي “هشاشة” التي فازت بجائزتين، لِمَ اخترت هذا العنوان، وبم شعرتُ حين كتبتها.. كثيرةٌ كانت الأسئلة.. سعيدة كنت بالإجابات التي أقفز منها وإليها بحماس طفلة أمسكت الميكروفون لأول مرة!
كثيرةٌ هي الأماكن، كثيرٌ هو الدمار، أكثر من أن تُحصى ويُحصى..
اليومَ تُجرفُ الذكريات ويُطلب من الذاكرة أن تُمحي.. كيف تُمحى؟ وكل الحجارة هنا تؤدي إلى حيث كنا؟
اليوم نريد أن نرى الصور في زاوية وحدنا، حتى لا يقبض أحد علينا متلبسين ببكائنا، فالبيوت اليوم خاويةٌ على عروشها بعدما كانت تضج بالحياة؛ فالأثر هنا يُقصف قبل أن يُصبحَ عينًا، وتنسف الحياة فوق رؤوس الحالمين قبل اكتمال الحلم لا قبل تحققه.
اليوم تتسائل أين سكان هذه البيوت المدمرة؟ هل هربوا من البيت قبل قصفه؟ هل وصلهم “صاروخ تحذيري”؟ هل استشهدوا جميعهم؟ كم واحدٌ نجا ليتحسر على البقية؟ وهذه السيارة المكومة بمنتصف الطريق.. هل قُصفت فارغة؟ أم كان يرتادها أحد؟ هل وصلها الصاروخ خصيصًا؟ أم أن الشظايا جاءتها عن طريق “الخطأ”؟!
كثرةُ أسئلتك تربكني.. متى ستقتنع أن لا وجود للأجوبة؟
عقارب الساعة تزعجني، السابعة والثانية عشرة دقيقة صباحًا.. النوم يهجرني، والعصافير تنذرني من أشعةٍ حارقة ستغتال اليوم، الشاحنات وحدها في الشارع، والبيوت تغفو مع أصحابها الذين اعتادوا النوم في هذا التوقيت بالذات خلال العدوان، بين يقظتين، خوفين، دمارين.
السلام لجسدك أولًا، ثم لأجساد أحبتك، ثم السلام لبيتك وحجارة الحديقة.. أما قلبك.. فهو أخيرًا.. آخر الاهتمامات وأول أهداف الطائرات.
المتناقضات في بلاد الحبّ والحربّ غريبةٌ، كما يتعانق الهلال والصليب، وكما تمتزجُ قهقهة الصباح ببكاء الليل، وكلاهما يتنفسُ من رئتي الآخر.
في وطن اللقاء والغياب، هنا حيث رائحةُ القهوة تمتزجُ بالبارود، والطيور تحلقُ حرّة دون خوفٍ من الركام المرعب تحتها، والدمار خجلٌ من طابة ابن الجيران الذي نصب المرمى بين حجرين، أما أنا فيأخذني درويش بجلبته: “ماذا جنينا نحنُ يا أماه كي نموت مرتين؟ فمرة نموت في الحياة.. ومرة نموت عند الموت”، أمرتين؟ ترى كم مرةٍ نحنُ متنا في الحياة يا درويش؟ ومتى سيأتي الموتُ الأخير؟
*كتبتُ هذه الخاطرة بحمدالله بعد العدوان، ونُشرت بصحيفتي "العربي اليوم" المصرية، و"الفكر"المغربية.
تعليقات
إرسال تعليق