شخصيّةٌ ثانويّة| سجى حمدان

 



شخصية ثانوية| سجى حمدان

أنا أستوعب فكرة أن يفقد المرء قدرته على الكتابة، فجميع الخلق يمرون بفترات انكماشٍ وانبساط، خيبةٍ وفرحة، والكتابةُ تحتاج إلى الشغف، أو الحنق، فيعيشُ المرء حزنه أو اندفاعه على الورق، لكن إن لم يتوافر كلاهما، وعلق المرء باعتيادية الوجود، ورقود الشعور، ما استطاع أن يُنتج شيئًا، فالكاتب محكومٌ بجلبة معايشاته، وتعايشاته.

لكن ما لا أتفهمه حتى هذه اللحظة: أن يفقد المرء قدرته على قراءة ما قد كتبه يومًا، أن يهربَ من أفكاره القديمة، ويخاف أن يقع في مواجهةٍ معها عند أحد السطور، فتكسب هي المعركة، هُو خوف المرء من نفسه، لأنه أضحى لا يعرفها، ويخشى أن تذكره الحروف بها، وهذا أشرس مشاعر الغربة، وأعنفها.

هناك حيث يصبح فرحه بالماضي يؤلمه، وبراءة تفكيره آنذاك تنغص عليه العيش الحالي، أما حزنه القديم فيدفعهُ للضحك لأسبابٍ يجهلها، ثم يتسائل: كيف تغيرت مجريات الأمور، فأصبحنا غرباء إلى هذه الدرجة التي تجعل الإنسان يظنّ أن الحزن فطرةٌ وطبيعة، يزور دياره الفرح يومًا ثم يغادر، وما أخفَّ الفرح ضيفًا، ثم يعود المرء لاعتياديته، وتعايشه مع الوضع الراهن، الغريب.

هذا الكلام تولّد معي لحظيًا عندما قرأت أحد نصوصي السابقة -غير المنشورة-، لكنّ ما دخلت لأدونه في الحقيقة مختلف تمامًا عمّا ذُكر آنفًا، ولا أنوي شطبه، فإن لم تكن الكتابة كالحياة: غير منتظمة، مكتظة بتفاصيل غير مهمة، و-أيضًا- غير مرتبة وعلينا تقبلها.. فلا فائدة لأن نكتب.

إنّ ما فعلته هذا المساء أني شاهدت أحد المسلسلات، وخطر ببالي أن أكتب عن الشخصية الثانوية، التي لا يكتب عنها أحد، حدث أنّي تعاطفت معها لسبب لا أعرفه، تلك الشخصية التي بعبثيةٍ ما لا تدورُ أحداث القصة حول محورها، بل هي من تركض في فضاء الشخصيات الأخرى لتؤكد وجودهم، وتكمل ما نقص من تفاصيل تخصهم، ثم تخرج هذه الشخصية وقتما يحبّ المخرج.. دون مواساة كاملة لجرحٍ عظيم ألمَّ بها من أحد الشخصيات الرئيسية، ودون عرضٍ واضحٍ لتفاصيل ما حدث لها بعد أن قرر المخرج إبعادها عن فلك الأحداث..

أنّ يحبّ البطل البطلة الموازية، لكنّ لسبب ما تتعاقد الأحداث وتصبح في حياته امرأة أخرى يقربها منه باختياره، ويختارها إغاظة لحبيبته السابقة -الأساسية- ليكمل معها مشواره، ثم يتذكر فجأة أنه لم يحدث وأن أرادها، وللصدفة أنه يدرك ذلك -ببراءة كما يكتب لنا المؤلف- بعدما علّقها به، واستحوذ على تفكيرها وخططها للحياة، ببساطة لنتعاطف جميعًا مع هذا الكائن المظلوم، ونبقى متحفزين لتلك اللقطة التي سيتركها فيها، ثم لا نتعاطف معها أساسًا حين تبكي، ونحقد عليها حين تهدده وتصرخ، ذلك أنها ليست مهمة بالنسبة لنا، فنحن نريد اجتماع الأحبة.. الذين اجتمعوا نهاية على حطام مشاعر الآخرين.

إنّ ما لم يقله المخرج، وما لم يُرينا إياه بعد سعادة الاجتماع بين الأحبّة، أن أعمال الإنسان تُلاحقه، وأن التعاسة التي تركها في قلب أحدهم ستحولُ دون كونه سعيدًا، إذا أراد الأبطال أن ينسوا جرائمهم في حق الآخرين، فالنسيان لا يعني أن الذنوب قد مُسحت، وأنّ الأبطال الفرعيين قد تزوجوا وأكملوا الحياة بسعادة قد يريح ضمير المشاهد، فلا يشعر بالحزن عليهم لدقيقة واحدة.

عزيزي، لا أظنك بحاجة أن تعيش هذا الدور في حبكةِ أحدهم حتى تشعر بهذه الشخصية الفرعية، وتدرك مأساتها.

أنا أفضل عدم الجلوس أمام التلفاز، لا أدري هل أصبح ذوقي المسلسلاتي صعبًا، فلا يعجبني شيء، أما أني فقدت قدرتي على مسايرة المخرج في قفزاته غير المبررة، لإرضاء المتفرج، المتفرج الذي يعلم جيدًا أنّ المجروحين لن يعودوا بأمانٍ لذابحيهم، والمقهورين لن ينسوا قهرهم تحت أي ظرف، وإن عادوا لهم بألف جثة مقابل جثة أخيهم، فأنا أحب أمل دنقل حين لم يعطِ بدائل وقال "لا تُصالح" بالمُطلق! "لا تُصالح على الدم حتى بدم"، وانتهى، هي دقة اختيار حرف الجر "حتى" بدل "إلا"، فلم يقل لنا كيف سنصالح، فقط أشار لنا بألّا نفعل، فالفعل ذاته مرفوض.

أعتقد أن كل حلقة ستؤدي بنا إلى خاطرة، وإن الخاطرة تدعو للتأمل، وإن التأمل أصبح متعبًا أكثر من أي شيء آخر هذه الأيام.

لكنّ أبلغكم تحياتي، وإلى لقاءٍ من مسلسلٍ عربيٍّ آخر.

سجى

 التاريخ: 31/12/2022

اليوم: السبت الذي لا أحبّه منذ اليوم الذي التحقت فيه بالصف الأول الابتدائي، وكان اليوم المخصص للتفتيش على الأظافر، وبدء أسبوع دراسي جديد أنتظر انتهائه بفارغ الصبر.

 *أحب أن أنتهز الفرصة -أيضًا- وأجدد كرهي للفترة الابتدائية كاملةَ، وجدول الضرب الذي لم أحفظه حتى الآن؛ لأن لا أحد أقنعني بجدوى حفظه طالما نستطيع إخراجه عبر الآلة الحاسبة.


 


 

تعليقات

  1. شمس الدين السويركي15 يناير 2023 في 3:31 ص

    فوق الرائع و قصة الشخصية الثانوية جميلة جدا يعطيك الف عافية 😍😍

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الطقس.. إلى حدٍّ ما! | سجى حمدان

في حبِّ رمضان.. سجى حمدان

إشارةٌ حمراء| سجى سامي حمدان